رومانسية الخطاب الثوري ورُعْب الواقع
احمد عبداللاه
هي اليمن لم تزل مُعَلَّقة بين غبار التاريخ وضباب الآتي ولن تصبح كما أرادت لها الشعارات الثورية ، بمجرد أن الشعب قد قال كلمته ، فالثورات تهدف أساسا إلى تغيير آليات الحكم ووسائله ، ومن خلال ذلك ( إن نجحت ) فإنها تنتقل إلى شرعية الدولة لتقود المجتمع في عملية تاريخيه طويلة تتوقف أمام محطات عسيره في مواجهة الموروثات القديمة بكل أشكالها السياسية ، – الاقتصادية – الاجتماعية والثقافية وتتحمل أعباء التحدي لعقود حتى يبدأ نموذج الدولة الحديثة أو تباشيرها.. وبين البداية وتلك النتائج المستهدفة هناك عوالم من المتغيرات الضرورية وهناك إمكانيات متوقعه للإخفاق وربما السقوط .
إن العرب أكثر شعوب الله هوَساً بالخطاب والمنابر ويحتل الخطباء مركزاً معنوياً عاليا وانتشاراً اجتماعياً دون الحاجة لفواصل تلفزيونيه تجاريه للترويج لهم ، فالطبيعة الانسانيه للعربي موروث ثقافي ضارب في القدم تجعله ينصهر روحياً في أتون الخطابة وخاصة حين تخرج من أفواه الزعماء ذوي الصفات المنبريه والنبرات الآسرة وبهذه الآلية المحببة تتشكل الأحلام في النفوس وتتورَّد الخيالات ويُرَى الواقع كحقول عباد الشمس صفراء فاقع لونها تنثر أريجها فوق السهوب البعيدة وحين تجتمع فنون الخطابة مع قدسية مواضيعها ذات البعد الديني أو الوطني القومي فإنها قادرة على تشكيل وعي اجتماعي واختراق خطير للعقول الناشئة ولذوي القدرات الفكرية المحدودة وهم يشكلون قطاعات شعبيه واسعة .
أمَّةٌ تحتفي بنظام الخطابة وتعيش من الناحية الفنية على إعادة استهلاكه.
وإذا قبلنا أن اليمن يمثل عالم ثالث أكثر تخلف من محيطاته العربية والإسلامية فان رومانسية الخطاب الثوري تحفر عميقاً في نفسيته العطشى وتتوغل في سراديب الذهنيه الآدمية المحدودة لتشكل وقوداً حيوياً وعفوياً مندفعاً دون ان ( يتَبَوْصل ) مع انعدام الحصانة الفكرية ، مما يجعله متيقناً انه بعد غد سيتحول اليمن مثلاً إلى دوله سكندنافيه على الأقل وقبل ذلك سيتم حلَّ كل الأزمات والمعضلات.
فاقدون الإحساس بالتاريخ و(متعامون ) عن الدروس المؤلمة التي مرت والتي ستعود بصيغة أخرى وربما أشدَّ قسوة.
فعندما دخل اليمن وحدته اشترط قادة الجنوب ان تكون وحده مضاف لها ديمقراطيه وكأنها وصفة يتم إعدادها في مطعم شعبي ولم يدركوا أن الديمقراطيه عملية تاريخيه وقيمة حضارية بعيدة المنال، وحين انتبه القوم كان الموت قد حاصرهم فتركوا سلاحهم وخطابم و ( شردوا) .
وبالعودة لثورة التغيير فانه يمكن القول بان الجميع ألان يعيش وضعاً ثورياً ( ناقص او سالب ) لم تكتمل شحنته تماماً كما سعى لها شباب التغيير الذين سُٰفِكت دماؤهم ، بل كما يعلم الجميع تم التحول نحو آلية وفاقيه .
إن ما يعنينا هنا ليس تقديم تحليل سياسي مرحلي ، وإنما محاولة كشف الفجوة الكونية بين رومانسية الشعار ورُعْب او قسوة ( خفيفه على السمع) الواقع ،
إنَّ ما قدمته الثورة هو أنها أخرجت الأزمات والمعضلات أجمعها إلى السطح ووضعت الجميع أمام تحدي هائل مع تغيير نسبي تمثل في وضع آلية للحكم الموصوفة ضمنياً بالانتقالية ، أي بمعنى آخر أن الواقع الآن هو من يتكلم بصوت صدَّاح ويؤشر إلى حقيقة بان من الأزمات والمعضلات التي تكشفت ما يحتاج الى تاريخ طويل ( مثل الانتقال الى دوله مدنيه وزرع قيم حديثه وحل الصراعات الطائفية والجهوية والقبلية وكذلك التنمية الإنسانية والاقتصادية … الخ ) .
وان من الأزمات الأخرى والأهم ما يحتاج إلى واقعية سياسيه واعتراف بالحلول الموضوعية واتخاذ قرارات تاريخية شجاعة ( كالقضية الجنوبية مثلاً ) حتى يغدو كل يء جزءاً من الماضي ، إذا لم ينتكس المسير ويضاف كركام فوق سابقه (وهو امر وارد) .
إن الوضع الانتقالي هنا لا يشمل كل شي بل الفوز بالتهدئة وإقرار مبادئ عامه كقواسم يأخذ بها الجميع لنزع فتيل الانزلاق إلى هاوية اللاعوده … وهذا أمر ضروري لكن يجب الاعتراف أن أي آلية حتى لو كانت حواراً شاملاً لن تنتج حلولاً سحريه لتفكك المعضلات او تحجمها تمهيداً لإجراء علاج ناجع.
ليس الأمر هكذا فالثورة نجحت في تفكيك المشهد ولم تحقق اجتياحاً شاملاً يبطل مفعول أزمات التاريخ بعلاجات راديكاليه لا مساومة فيها كما هو شأن الثورات الأخرى ، على خلفية ( خصوصية اليمن …. الخ أو هكذا يُشاع ) ، وبهذا فان الحاجة إلى ترتيب الوضع بشكل آخر وبلمسات ثوريه مع الاحتراس من مناطق الخطر والتعامل معها بحذر شديد ، أصبح محتوى الفعل الحالي ولا ينفع التنبؤ حيال ماذا سيؤول اليه .
وهذا لعلمنا جميعاً صيغة مهادِنه كما هو حال الوفاق في كل الدنيا ، ويحتاج الى نَفَسْ طويل المدى وقابل للتمديد بل الاعتراف أن الحوار المنشود آلية تجريبية
وليست هدفاً ، ولن تنجح تلك الآلية إلا إذا اعترف الجميع بان المعضلات التاريخية الكبيرة تحتاج إلى حلول تاريخيه مؤلمه وهي معادلة يفهما كل رجالات التاريخ في الدنيا وعبر العصور .
أما الدروس التي تعلمناها من عمليات الوفاق المفروضة من الخارج فهي ليس إلا اختصار لصفة التهدئة المزمنة ( مصطلح كئيب ) ما أن تلبث حتى تتراكم غيوم أكثر سوادا ، فالوفاق بين خصمين يتقاتلان على السلطة والمصالح والسيادة المطلقة ، وفي دولة بدائيه لا مدنيه لا ديمقراطيه ، هو وفاق بين الشرارة والبارود وحين يصبح الوفاق يمنياً يكون اللحن أكثر رومانسيه.
لكن دعونا نترك الأمر للمستقبل القريب ونعود لكلامنا وهو انه وفي ظل هذا الوضع المتحرك فانه يجب الاعتراف بالواقع وهو أن اليمن لن يتحول بالسرعة التي تمناها الشباب واستهواها من ركبوا الأمواج بخفة معهودة ، وحين نعترف بذلك فان علينا إسقاط التسويفات والوعود والاعتراف بان هناك معضلات حقيقيه لا تنفع معها دروس الخطابة أو كيد المنابر .
إذاً الابتعاد اولاً عن الرومانسية الخطابية وثوابتها المتعفنه ، في بلد يجثم فوق حقول من الإتعاب ولم تنتقل السلطة فيه بشكل كامل بعد ، وإن انتقلت بعد حين فلابد ان لا تنتقل من اليد اليمنى إلى اليد اليسرى بل بمفهوم الانتقال الديناميكي النوعي .
أن الخلاصة من هذا الأمر تصب في ضرورة الاعتراف بالأزمات الكبيرة وعدم الانقلاب على الحلول الموضوعية التي لن تأتي في سياق عقليات الماضي بتطويع الواقع خلف الأحلام بل بقبول نموذج عقلاني يتحلى بالثبات وترشيد الأحلام لتركيبها بواقعيه على أرض يجد الشقاء فيها موطناً أصلياً