ثقافة

من أحسن إلي.. كيف أجازيه؟

إيناس ثابت

كانت القطرة جزءا.. من البحر المهيب

تنتهي إليه دائما أينما رحلت أو تباعدت

في التعقيب على.. لو تجاوزنا الحساب

للأستاذ إبراهيم يوسف

سريعة هي الأيام التي تلتهم الماضي، بما تعاقب عليه من النهارات المضيئة المبهجة، أو الليالي المعتمة تحفر جُوَراً في حنايا القلب، حيث نواري أحزاننا أو نغرس فيها زهور الأمل، يسعفنا عطرها على مواجهة الزمن.

حملني لو تجاوزنا الحساب، مسافات يسيرة إلى الوراء، إلى عهد الورق الأخضر ونضارة العمر في حياة الشجر، حينما كنت على مقاعد الدراسة، الحافلة بالصحبة الهنيّة والمسرة والنشاط، وهوى الرسم والأقلام الملونة، والكراسات المنقوشة وغبار الطباشير، وشعلة الحماسة المتوقدة للدقائق القليلة والفسحة العزيزة المنتظرة.

كان التعليم كابوسا على جسدي النحيل، وعقلي يلح علي بأسئلة لا تنتهي، عن الكون والإنسان والوجود، في ظل أسلوب اعتمد الموعظة والتلقين عموما، بتجميد العقل وتعطيل حرية حركته، وحفظ معلومات لا تقبل الطعن فيها والنقاش، عوضا عن التجربة والممارسة المدركة، والتفكير والتحليل والابتكار لتحفيز العقل على الأسئلة والمراقبة وصولا للأجوبة المقنعة، وهو النموذج الأكثر عمقا وتأثيرا على النفس، وكأننا نعيش زمن العصا والكُتّاب بفارق الأبنية الحديثة والكتب الجميلة الملونة. بالإضافة إلى المشاركة بعبء الواجبات المنزلية المرهقة.

والأسوأ في قناعتي التي ربما لن تتبدل كثيرا؟ بعدما بلغت سنا معينة وتكونت أفكاري شبه النهائية، عدم الاعتماد على حفظ المعلومات فقط، وتفريغها في ورقة الإجابة خوفا من العقوبة، أو للحصول على شهادة مؤطرة بعلامات عالية، تنتهي بعدها علاقتنا بالمادة التي تعبنا في تعلمها، وحفظ ما يمكن أن يتصل بها من العلوم “النافعة”.

تجاوزتِ المدرسة أمية القراءة والكتابة، لكنها أثبتت سوأة التبعية والتقليد، واتباع العقل الجمعي المفروض بصمت، بعدم الجرأة والانفتاح على الجديد، بناء على فكرة “بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون؟”. فُرضت سلطة المعلم وخضوع التلميذ، بينما تجاهلت تنمية المهارات المختلفة، والتعليم الذاتي وتنمية الخيال واستنفار الحواس.

إلى تحفيز العقل خارج حدود الزمان والمكان، ليؤكد تفرده وتميزه ورأيه المستقل، في تحقيق الأهداف التعليمية المرجوة في زمن واكبته التكنولوجيا في معظم الشؤون، وساهمت في تغيير سلوك المجتمع وطريقة تفكيره النمطية نحو الأفضل باعتقادي، لتتفتح آفاق الوعي وكل ما من شأنه أن يساعد في نجاح الحياة العملية.

لطالما وعظنا المدرسون والمدرسات؟ أن قضاء بعض الوقت أمام شاشة التلفاز والحاسوب فيه مضيعة للوقت. بينما اكتشفتُ كيف تمكنت من فهم بعض دروس اللغة العربية والإنكليزية والتاريخ والحساب والمعلومات العامة، من خلال شاشتي التلفاز والحاسوب، بصورة أيسر وأسرع وأهون، دون أن أغفل التسلية عند الملل.

توسلت اللجوء أحيانا للألعاب الإلكترونية التي تحفز الذهن وتنشط الذاكرة، وتعرفت من خلال الشاشات إلى شخصيات تاريخية وأدبية من الصعوبة أن يوفرها الكتاب المدرسي فقط. هكذا اعتراني التبدل يوما بعد يوم ليزداد “وعيي” ويتسع قلبي وأدرك أن لا حدود لطلب العلم، وأن الثقافة محيط واسع لا ينضب، وكل ما في جعبتنا من العلوم المكتسبة ليست سوى قشة على سطحه، لتبقى التجربة وما نختبره ونشهده بأنفسنا خير معلم لنا جميعا.

وبما توفر من أسباب مذهلة في الحصول على ما نريد من المعلومات؟ لا يغيب عن فكري بعض المشاهير من العباقرة والأدباء ورجال الأعمال، ممن أغفلوا كرسي الدراسة لأسباب متباينة، وتعلموا من دروس الحياة فمدّ لهم القدر أيدٍ كريمة، ترفرف في سمائها فراشات متوهجة، وصاروا مثالا يحتذى به في الثقافة والمعرفة.

فغيروا وجه العالم وتركوا وراءهم أسماءً متوهجة، في فضاء الإنسانية الرحب وتخلدت أثارهم بيننا، فها هو الرافعي نبراس الأدب العربي نموذجا، حينما لم تتعدَ دراسته المرحلة الابتدائية بفعل مرض ألم به، غير أنه استعاض عن المدرسة، بمكتبة أبيه وغيرها ينهل العلم منها، فتعلم الفرنسية وأتقن الترجمة منها وإليها.

وغيره كثيرون ممن مجدهم التاريخ، وشهد على عظمتهم في مجالات مختلفة، مثل ساحر “مينلو بارك” توماس أديسون، الذي اخترع العديد من الأجهزة، وبيل غيتس مؤسس مايكروسوفت، وعملاق الفكر العربي العقاد، وملكة الجريمة أجاثا كريستي، و”بابا” الأدب الأمريكي إرنست هيمنجواي، ووالد الأدب الروسي ليو تولوستوي.

ليس في قولي دعوة للخروج من المدرسة وهجر التعليم، فالتعليم مهمة إنسانية عظيمة تحتاج إلى شغف و كفاءة وتدريب، واحتواء المتعلم وتشجيعه ودفعه للمضي قدما. إنما أمنية للخروج عن الطريقة التقليدية التلقينية المألوفة، بل تطويرها بما يخدم من الوسائل، والمضي في طريق الإبداع المولود مع فطرتنا، والتجربة الغنية وتفعيل الخيال، ومهارة داعمة في الإنتاج والابتكار، ومقولة آينشتاين “الخيال لا حدود له وحافز لكل تقدم”.

أما شعورك بإدانة نفسك لما حصل مع المدير وأمينة سره؟ فإنه نبض الضمير الإنساني الصادق السوي في وجه التخلف والغباء والطمع. لكنها طبيعتك الصادقة المترفعة عن رد الإساءة باساءة من نوعها، لتنسى ما واجهك في الماضي، بلا حقد وضغينة بل بحلاوة الشعور في القلب، وهو أكثر ما أثر فيّ وتعلمته منك. وهكذا فأنت قدوة فيما قاله جلال الدين الرومي: لا يشغلني من أساء إلي فلست أجاريه * إنما يشغلني من أحسن إلي كيف أجازيه؟

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد ايضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى